رغم نُذر الحرب التي مزقت الخرطوم، ورغم أن أجهزة الإذاعة والتلفزيون قد غادرت مضطرةً مقارّها التاريخية بأم درمان، فإن صوت السودان ظل حاضراً من عطبرة – مدينة الحديد والنار – وصورته ظلت تشرق من ثغر السودان بورتسودان. لكن العاصمة القومية الخرطوم بدأت الآن تسترد عافيتها، بخطى ثابتة تعبر نحو التعافي، وتعيد تشكيل ملامح الحياة فيها من جديد.
عاد الأمن إلى قلب أم درمان، واستُعيدت مباني الإذاعة والتلفزيون، وها هي سفينة الإعمار تبحر منذ شهور، ويد البناء تحفر في الأرض، وترفع السقوف، وتبعث الأمل من تحت الركام. والي ولاية الخرطوم، أحمد عثمان حمزة، يستقبل يومياً قوافل الدعم والإعمار، في مشهد يُبشّر بعودة الخرطوم إلى قلب المشهد السوداني، لا كما كانت فحسب، بل كما يجب أن تكون – عاصمة تشبه تطلعات شعبها.
وجاءت زيارة رئيس مجلس السيادة، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، إلى مطار الخرطوم – في طائرة الرئاسة – علامة فارقة، وذات مدلولٍ عميق: الخرطوم لم تعد حلماً مؤجلاً، بل واقعاً يتشكل، وعودة حقيقية تستنهض شعباً كاملاً. هذه الزيارة لم تكن الأولى، ولكنها الأوضح، والأقوى في رمزية الانتصار على مشروع التمزيق والانهيار. سبقها تحرّك رئيس الوزراء د. كامل إدريس، الذي جال في العاصمة على وقع قرار القائد العام، لتكتمل صورة القيادة السياسية والمدنية في مشهد يعيد للناس ثقتهم في الدولة، ويطوي صفحة القلق.
من وسط هذا المناخ، تأتي أهمية عودة البث الإذاعي والتلفزيوني من استوديوهات أم درمان، لا كحدث فني أو تقني فحسب، بل كرسالة وطنية: أن الدولة استعادت رموز سيادتها. أن هنا… أم درمان، ما زالت تصدح كما كانت، بصوتها العميق وصورتها العريقة.
الورش والمشاورات التي تُعقد في القاهرة، وفي غيرها من العواصم، تُشير إلى إدراك النخبة لأهمية الإعلام في إعادة تشكيل الوعي الوطني، وطمأنة المواطن. آخر هذه الورش كانت في القاهرة يوم 28 يوليو، تحت عنوان “التلفزيون كأداة معرفية”، بتنظيم مركز التكامل السوداني المصري، والتي دعت إلى تأسيس محطة سودانية قومية تبث من القاهرة، دعماً للإعلام السوداني في هذه المرحلة الحرجة.
لم تكن الورشة حدثاً عابراً، بل محطة جديدة في مشروع استعادة الصوت والصورة، ومنبر جديد يُضاف لمواجهة طوفان التضليل، والحفاظ على الهوية الوطنية خارج الحدود. حضور قامات إعلامية، ومشاركة فاعلة من سفارة السودان بالقاهرة، وتقديم أوراق علمية مهمة، كلها دلائل على جدية المشروع، ووعيه العميق بأهمية المرحلة.
لكن السؤال الكبير، الذي لا يزال ينتظر الإجابة:
متى نسمع: “هنا أم درمان”.. من استوديوهاتنا الرئيسية في قلب العاصمة؟
متى تعود الكاميرا لتلتقط لحظة الفرح في شوارع الخرطوم، وتوثّق عودة الفاشر، ونيالا، والجنينة، والضعين، إلى حضن الوطن؟
متى تبث الشاشة مشاهد كسر التمرد، وانهيار المشروع الذي أراد تدمير السودان؟
عودتنا من القاهرة إلى أم درمان، ليست مجرد تحرك جغرافي، بل هي عودة لنبض الوطن، لرسالته، لوعيه.
ومتى ما عاد صوت أم درمان وصورتها، فذاك هو إعلان النصر الأكبر.