32.7 C
Port Sudan
الإثنين, سبتمبر 8, 2025

حبذا.. عمار موسى.. حين يُنهب التاريخ

من بين كل الفواجع التي خلفتها حرب الخامس عشر من أبريل، تبرز فاجعة مختلفة في طبيعتها وآثارها؛ فاجعة لا تُقاس بعدد الضحايا ولا بحجم الركام وحده، بل بمقدار ما فقدناه من روح وهوية وتاريخ. إنها جريمة محو الذاكرة الجمعية لهذا الشعب، من خلال تدمير ونهب المتاحف والمؤسسات الثقافية، وسرقة الآثار والمخطوطات التي كانت توثق لمسيرة حضارية ممتدة منذ آلاف السنين.

السودان لم يكن مجرد جغرافيا مضطربة أو ساحة صراعات سياسية، بل كان ولا يزال موطناً لحضارات ضاربة في عمق التاريخ، من الممالك النوبية القديمة، ككوش ونبتة ومروي، مرورا بالممالك المسيحية والإسلامية، وانتهاءً بالموروث الثقافي الحديث الذي ظل شاهداً على تنوّع السودان وتعدديته.

هذا التاريخ لم يكن محفوظاً في الذاكرة الشفهية وحدها، بل كان موثقاً ومحفوظاً في متاحف ومكتبات ومعاهد ومراكز ثقافية، كانت تمثل كنزاً وطنياً وإنسانياً لا يُقدّر بثمن.

لكن مع اندلاع الحرب، امتدت يد التخريب والنهب لتطال تلك الكنوز، لا عبثًا ولا مصادفة، بل بنهج واضح يوحي بأن ما جرى كان مقصوداً وممنهجاً.

لقد طال النهب المتحف القومي في الخرطوم، وهو أقدم وأهم المتاحف في البلاد، بما يحويه من قطع أثرية تعود إلى ما قبل الميلاد، توثق لتاريخ الممالك النوبية ومراحل تطور الحياة السودانية عبر العصور. كما تعرّض متحف التاريخ الطبيعي للتدمير والعبث، وفُقدت منه مجموعات نادرة من العينات البيئية والحيوانية.

ما يُثير القلق ليس فقط ضياع هذه المقتنيات، بل أيضاً غياب أي مؤشرات على نية حقيقية لاستعادتها. فالجهات التي مارست هذا النهب، وعلى رأسها مليشيا الدعم السريع، لم تكن تتحرك في فراغ، بل استغلت الفوضى لتصادر الذاكرة، وتسرق ما يمكن بيعه أو تهريبه في السوق السوداء العالمية، حيث تلقى الآثار المسروقة رواجاً لدى من لا يعنيهم مصدرها بقدر ما يعنيهم ثمنها.

إن النهب لم يكن فعلاً جانبياً، بل كان فعلاً سياسياً وثقافياً في آنٍ معاً، لأنه يستهدف جوهر الانتماء الوطني.

وما يدعو للأسى أكثر أن هذا النهب لم يحرك حتى الآن ضميراً جماعياً على المستوى الرسمي أو الشعبي بحجم الجريمة المرتكبة. فبينما تتسابق الأمم على حفظ تراثها، والاحتفاء بتفاصيل حضاراتها، يواجه السودان اليوم احتمال ضياع تاريخه بصمت، دون حملة وطنية أو دولية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

إن محو التاريخ ليس أمراً رمزياً أو عاطفياً فحسب، بل هو مسعى خطير يُفرغ الوطن من معناه، ويجعل مستقبله هشاً، لأن الأمم لا تنهض على الحاضر فقط، بل على جذور راسخة من الماضي، وعلى ذاكرة تعينها في رسم الطريق.

المطلوب الآن ليس فقط وقف هذا النزيف، بل العمل بجدية على تتبّع القطع المنهوبة واستردادها، وتوثيق ما تبقى من تراثنا، والضغط على الجهات الدولية المختصة، من “اليونسكو” إلى “الإنتربول”، لوقف تداول الآثار السودانية المسروقة. كما ينبغي على الحكومة والمجتمع المدني والمؤسسات الأكاديمية أن تضع حماية التراث في قلب أي مشروع وطني لإعادة البناء.

فالحرب قد تمضي، لكن جراحها تظل مفتوحة، خاصة حين تُحرق فيها ذاكرة الشعوب، وإذا لم نعد بناء تلك الذاكرة، ولم نستعد تاريخنا، فسنكون كمن يعيش فوق أرض لا جذور له فيها، وماضٍ لا يعرفه، وهوية تتلاشى بين الركام.

أخبار اليوم
اخبار تهمك أيضا