في زمانٍ غير هذا الزمان، كان الجار للجار سندًا، وكان البيت بيتين، والماء يُسكب في الأواني المشتركة، والقلوب على بعضها. في ذاك الزمان، لم نكن نعرف الخيانة إلا من كتب التاريخ، ولم نتعلم الغدر لأن صدورنا كانت أوسع من الضغائن.
أما اليوم، وبعد أن عبرت آلة الحرب شوارع السودان وجباله وسهوله، وبعد أن صمتت البنادق عن الكلام، تَركت خلفها وجعًا لا يُقال، وخرابًا لا يُحصى. لن أُطيل الحديث عن القذائف التي مزقت العمران، ولا عن الجوع الذي افترس الأطفال، فالناس كتبوا وكتبوا حتى صارت الحرب نفسها قطعة قماشٍ بالية، لا تقوى حتى على الاحتمال.
لكن، ماذا عن الحرب التي بدأت بعدها؟
حرب الأخلاق، حرب الثقة، حرب الضمير.
حادثة الإسكندرية، حيث خدع سودانيٌ أهل بلده، جمع المال من أهله الطيبين تحت راية “العودة الطوعية”، ثم تنكر لهم، لأماناتهم، لأحلامهم. هل كانت الحادثة الأولى؟ بالطبع لا.
ذاكرتنا مثقلة بحكاياتٍ يندى لها الجبين:
مواطنون دلّوا على منازل النظاميين، آخرون سرقوا جيرانهم، وأقرباء خانوا أقرب الناس إليهم.
الأنكى من ذلك، من باعوا العرض قبل أن يبيعوا الأرض، ممن وصفوا بنات جيرانهم للميليشيات طلبًا لرضا أو مال، أولئك الذين سقطوا في هاوية لا قرار لها، وتركوا خلفهم وصمة عار يصعب نسيانها.
ولك أن تتأمل كيف انفجرت أسعار الإيجارات في وجه النازحين، وكيف صار الاستغلال لونًا ثابتًا في تفاصيل حياتنا.
هل هذا هو المواطن السوداني؟
أبدًا. هذه صورة شاذة لا تمثل إلا أصحابها، لا تمثل ذاك الرجل الذي اقتسم رغيفه مع نازحٍ غريب، ولا تلك المرأة التي حولت بيتها إلى مأوى للأرامل والأيتام، ولا الشاب الذي خاطر بحياته من أجل إيصال الدواء والخبز لمسنين لا يعرفهم.
هؤلاء هم السودان.
هؤلاء هم الذين يجب أن نحكي عنهم.
هم الذين نكتب أسماءهم على جدار الأمل.
إن معركتنا القادمة – والأهم – لن تكون بالسلاح، بل بالضمير.
هي معركة لاسترداد القيم، وبعث الأخلاق، وبناء الإنسان السوداني من جديد، ذلك الإنسان الذي عُرف بصدقه، وشهامته، ومروءته.
لن تُبنى الدولة السودانية الجديدة على ركام الخراب وحده، بل على لبنة الأخلاق.
فالقيم هي أول الطوب في جدار الوطن.