الوطن ليس مجرد رقعة جغرافية نعيش عليها، بل هو نبض يسكن فينا، يرافقنا حيثما حللنا وارتحلنا، يسكن القلب والذاكرة والحنين. فحتى قبل أن تغادر الطائرة أرض السودان، وقبل أن تبرح قدماك تراب الخرطوم، ينبض القلب بالشوق، وتلوح في الخيال صور مدني، المدينة التي نعشق، وذكريات الطفولة التي نتوق لاحتضانها من جديد.
في كل رحلة قصيرة، كنت أعود مشحونًا بالحب، مترعًا بالشوق، كأن الترحال في داخلي لا يكتمل إلا بختام سعيد في الخرطوم، حيث مقر العمل، والحياة، والانتماء. أما الإجازات، فكانت فصولًا من السعادة، أقضيها مع أسرتي بين مدن عديدة، وأجد فيها في مكة والمدينة طمأنينة الروح وحلاوة العبادة، إلا أن السودان، رغم البعد، لم يغب يومًا عن مخيلتي، ولم يبرح قلبي.
لكن أن تغادر الوطن قسرًا، لا حبًا في الترحال بل هربًا من نيران الحرب، فذلك وجع لا يُقارن. أن تصبح لاجئًا في أرض الغربة، وإن وجدت بين أهلها المحبة والمودة، يبقى شعورك بالانتماء معلقًا هناك، في تلك الأرض التي لم تعد قادرة على احتضانك لكنها لا تزال تسكنك.
تتحدث لغتك، وتحمل ثقافتك، وتخفي بين ضلوعك حنينًا يصعب التعبير عنه. وتزداد خفقات قلبك كلما سمعت اسم الوطن، أو رأيت علمه، أو عبرت صورة من مدنه أمامك في نشرات الأخبار. وقتها، لا تملك إلا أن تردد أبياتًا من الشعر تخفف وطأة الشوق:
إذا ألقى الزمان عليك شرًّا
وصار العيش في دنياك مُرّا
فلا تجزع لحالك بل تذكّر
كم أمضيت في الخيرات عمرًا…
أبيات تواسيك، وتزرع فيك أملًا بأن العودة قريبة، وأن الغربة وإن طالت، لا تنزع منك حبّك للأرض التي شكّلت وجدانك وهويتك. وفي كل حين، يتردد صدى أمير الشعراء أحمد شوقي:وطني لو شُغلتُ بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيلٍ
ظمأٌ للسوادِ من عين شمسِ
فسلامًا على وطني، حُبًّا له ووفاء، حتى وإن جار عليه الزمن، فهو في القلب، لا يُزاحمه فيه أحد.

