في مسيرة السياسة السودانية الحديثة، يبرز الحزب الاتحادي الديمقراطي كأحد أعرق الكيانات السياسية التي شكّلت وجدان الوطن وأسهمت في بناء الدولة السودانية بعد الاستقلال. إلا أن هذا الحزب، صاحب التاريخ النضالي المجيد، يعيش اليوم حالة من الغياب والتراجع، بعدما كان يوماً ما رقماً صعباً في المعادلة الوطنية.
من أبرز محطات الحزب في تاريخه الحديث، مبادرة “الحوار الوطني الشعبي” التي أطلقها الشريف زين العابدين الهندي – رحمه الله – في منتصف تسعينيات القرن الماضي. هذه المبادرة لم تكن مجرد موقف سياسي، بل كانت محاولة شجاعة لفتح أبواب الحوار في ظل واقع سياسي مأزوم، سادته المواجهات والعزلة بين النظام الحاكم حينها (نظام البشير) وبقية القوى السياسية.
الشريف زين العابدين، برؤيته الوطنية الصادقة، وروحه الصوفية النقية، وعطره النبوي، سعى إلى إخراج البلاد من نفقها المظلم، فقدم رؤية استراتيجية للأمن القومي، وأعاد طرح مفاهيم المشاركة الوطنية، مؤمنًا بأن الحوار هو المدخل الوحيد للتحول الوطني. ورغم اختلاف الآراء داخل الحزب الاتحادي حول تلك المشاركة – بين مؤيد ورافض – إلا أن مبادرته كانت بداية لتغير حقيقي في خريطة العمل السياسي.
كان الشريف يحمل الحزب في قلبه، ويمضي به بروح المسؤول الوطني، متمسكًا بأدبياته ومرتكزاته التاريخية، واضعًا مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. ولكن بعد رحيله، بدأت ملامح التراجع تلوح في الأفق. دبّت الخلافات، وتغلبت الأطماع الشخصية على المبادئ، وانحرفت بوصلة بعض القيادات عن المسار الوطني.
بدلاً من الحفاظ على استقلالية الحزب ووزنه السياسي، سعى البعض إلى صناعة تسويات مع النظام الحاكم آنذاك، مقابل فتات من السلطة والمناصب. فتم تهميش الحزب، وتكسير بنيته، حتى أصبح تابعًا هامشيًا لا فاعلًا مستقلًا.
وكانت محاولات الوحدة الاتحادية صمّام أمان لاستعادة عافية الحزب وربط مساره الوطني بقاعدته الجماهيرية العريضة، بعيدًا عن الصفوية السياسية المصطنعة التي سيطرت على بنيته حديثًا. لكن سرعان ما تلاشت هذه المحاولات، بفعل تدخلات الحزب الحاكم وسعيه لتفتيت الكيان الاتحادي، وإجهاض أي مشروع وطني جامع يعيد الحزب إلى حجمه الحقيقي.
وبعد ثورة ديسمبر المجيدة، التي أعادت تشكيل المشهد السياسي في السودان، اختفى صوت الحزب الاتحادي الديمقراطي من ساحات الفعل الثوري، ومن المواكب الشعبية، ومن التجمعات الوطنية. وهو أمر يثير كثيرًا من الأسئلة: أين الحزب الاتحادي، وهو الذي طالما قُدّم على أنه الحزب الشعبي الوطني صاحب الجماهيرية الأكبر؟
ثم جاء اندلاع الحرب في 15 أبريل، لتضع السودان في مفترق طرق جديد، وتحتاج البلاد فيه إلى صوت العقل والتاريخ. ومع ذلك، غاب صوت الحزب الذي صنع الاستقلال، وغاب معه صوت الحق والمبادرة الوطنية التي عُرف بها في أحلك مراحل الوطن.
ختامًا، ما أشد حاجة السودان اليوم إلى بعث روح الشريف زين العابدين، لا في شخصه فحسب، بل في مشروعه الوطني الجامع، الذي ينطلق من ثوابت راسخة ويعلو فوق الحسابات الضيقة. فهل يعود الحزب الاتحادي الديمقراطي إلى موقعه الطبيعي في قلب الوطن، أم سيظل حاضرًا في الذاكرة فقط وغائبًا عن الواقع؟

